الصحة النفسية مدخل لحياة سليمة

الإشارة الأولى التي دفعت فاديا لمتابعة وضع ابنها، عبد الرحمن، كانت تأخره في النطق والكلام لما بعد سن ثلاث سنوات، وعدم قدرته على التواصل مع محيطه. فاديا التي فضلت عدم مواجهة الكاميرا، تواجه الحياة بإرادة صلبة، وتصميم، وقوة لا تجدها إلا عند الأم - أينما وجدنّ - عند تحسّس أيّ خطر قد يحدق بأبنائهن. 


تقيم فاديا في مخيم نهر البارد ولديها ولدان. عبد الرحمن هو ابنها البكر، لكنّ الابنة الصغرى بدأت بالكلام قبله، مما ضاعف من شك فاديا بأن امراً ما يستدعي التدخل، فتوجهت على الفور إلى الأخصائيين. تقول، "أظهرت النتائج أن عبد الرحمن يعاني من التوحد إنما بدرجة لا تمنعه من التأقلم في محيطه. عندها، بدأت رحلة طويلة من العلاج الذي تضمن جلسات النطق، والعلاج النفسي، والمتابعة الدقيقة واليومية في الروضة، ومن بعدها في المدرسة."  



وبسرور تتابع فاديا قائلة، "اليوم، عمر ابني عشر سنوات وهو بالصف الخامس. يتكلم بوضوح وطلاقة، ومع المتابعة الدائمة يحقّق تحسناً كبيراً في المدرسة ونتائجه جيدة." ولكن هذا لا يعني أن رحلة عبد الرحمن مع العلاج انتهت. كيف؟ تقول فاديا، "لم يتأقلم عبد الرحمن لغاية اليوم مع محيطه تماماً، ومهارة التواصل لديه محدودة، فليس لديه أصدقاء، ويظل عرضة للتنمر. ولقد ساءت حالته النفسية إثر تعرّض والده لجلطة دماغية حيث بدأ يميل إلى الانطواء، ويتراجع أداؤه في المدرسة. حينها، بدأ يكتب الأحرف بشكل مقلوب. هنا، انطلقت رحلة جديدة من العلاج والمتابعة لتدارك تراجع علاماته المدرسية. تطلب هذا العلاج متابعة نفسية دقيقة لعبد الرحمن، ومتابعة مباشرة مع معلماته في المدرسة. ولم يكن هذا بالأمر السهل. فهدفي الأساسي كان تقليل الأثر على أدائه المدرسي وضمان نجاحه في الامتحانات. ولقد احتفظت بسجل مسابقاته وعلاماته في تلك الفترة وما بعدها لتتبّع التغيير والتقدّم الذي حققه، وكي يرى عندما يكبر الأشواط التي قطعها من أجل النجاح." 


 



وبقدر ما يظهر تصميم فاديا على متابعة حالة ابنها، يعكس تصميمها القوة الداخلية للأم التي ستبذل المستحيل من أجل ولدها. تقول، "كان وما زال هدفي الأساسي أن يكمل عبد الرحمن تعليمه لأن العلم سبيله ليكون محصناً للحياة ومستعداً لمواجهة ما يمكن أن تحمله له، والأهم بالنسبة لي هو أن أطمئن على أنه قادر على التأقلم والعيش الكريم. فخوفي عليه يعادل حبي الكبير له. وكل تقدّم يحرزه يدخل الفرحة التي لا توصف إلى قلبي." 



يتابع عبد الرحمن جلساته ضمن مشروع "برنامج تعزيز الصحة النفسيّة"، الذي يوفر الخدمات النفسيّة والنفس- اجتماعية للأطفال والمراهقين من عمر 5 الى 18 سنة في مخيم نهر البارد، حيث يقوم طبيب نفسي مختص بتقييم كل حالة على حدة، وبوضع خطة تدخل يتم تطبيقها بالتنسيق مع المعالج النفسي.  

تنظم جلسات العلاج في مركز مؤسسة بيت أطفال الصمود، ترافقها زيارات متابعة للأطفال والمراهقين داخل منازلهم لتتبع تجاوبهم مع العلاج داخل أسرهم. كما يتضمن البرنامج تنظيم نشاطات دعم نفسي تتضمن ألعاباً تفاعلية وترفيهية وتجمع المستفيدين مع مجموعة من الأطفال داخل المخيم. ويغطي هذا البرنامج نحو 220 طفلاً ومراهقاً يعانون من اضطرابات نفسيّة.  


تشرف هلا السيد على هذا البرنامج في بيت أطفال الصمود، وتلفت إلى إدراك العديد من العائلات لأهمية التدخل النفسي عند أطفالهم حيث "لا يتردد الأهالي بالقول إن أطفالهم بحاجة إلى مساعدة نفسية". وتوضح السيد بأن الجلسات التي يغطيها البرنامج "تشمل أطفالاً ومراهقين بأعمار وحالات متفاوتة، لكن متابعتهم دقيقة والتقدّم المحقّق يترك تغييراً كبيراً في حياتهم. فتحصين الصحة النفسية للأطفال والمراهقين في هذا العمر يعطيهم فرصة للنمو الصحيح والدخول إلى معترك الحياة متوازنين وقادرين على اتخاذ القرارات والاسهام بتقدم مجتمعاتهم."    

  



ومن ناحية ثانية، ينظم البرنامج جلسات توعية للأهل حول مواضيع تتعلق بالصحة النفسية، والتنمر، بالإضافة إلى تنظيم نشاطات دعم نفسي للأطفال تتضمن ألعاباً ومسابقات وتجمع المستفيدين مع مجموعة من أطفال المخيم.  


تُعتبر الصحة النفسيّة جزءاً من صحة الفرد ككل، تنعكس على نموه النفسي وقدرته على اتخاذ القرارات، وإقامة العلاقات، والتعبير الصحي عن النفس. والصحة النفسية حاسمة الأهمية للتنمية الشخصية، والمجتمعية، والاجتماعية - الاقتصادية. ومن دون تدخل متخصص لا يمكن للفرد تحقيق امكانياته كاملة والتمتع بصحة جيدة. لذلك، يترك التقدّم المحقّق مع الأطفال أثره المطلق على حياتهم المستقبلية.  

المنشورات ذات الصلة

الثوب الفلسطيني: تطريز عابر للحدود يحكي قصة فلسطين

لن نحكي هنا عن الثوب الفلسطيني فحسب، بل عن قدرته على التحوّل إلى رمز، وموضة، وهوية. إنها قدرة التصميم والتطريز في إضفاء حياة على القماش، والتعبير عن موقف، وفي سرد الحكاية الفلسطيني...

  • التعاون

  • ۲۲ أيار ۲۰۲٤

حياة جديدة أمام المسنين في مخيم الجليل في بعلبك

لدى أمينة الكثير لتحتفل به الآن! مع استلامها الكرسي المتحرك، تستعد لحياة جديدة بعدما قضت ست سنوات داخل أبواب منزله...

  • التعاون

  • ۱٦ أيار ۲۰۲٤

خارج حدود المخيم: الشباب الفلسطيني في لبنان يبحث عن أحلامه ويبني مستقبله

حوّل الكثير من الشباب الفلسطيني ضيق أحوالهم وقساوة واقعهم كمنصة للانطلاق إلى عالم على اتساع طموحهم بالرغم من كثرة التحديات التي تقف أمامه...

  • التعاون

  • ۱۳ شباط ۲۰۲٤

الرعاية الطبية المنزلية للمسنين في مخيم البداوي

مع تدهور الأحوال المعيشية في لبنان تزداد التحديات التي تواجه المسنين ولاسيما داخل المخيمات الفلسطينية التي يعاني سكانها من فقر شديد. فانطلق مشروع توفير الحماية والخدمات الصحية للاجئين الفلسطينيين المسنين في مخيمات البداوي ونهر البارد والجلي...

  • التعاون

  • ۸ كانون الثاني ۲۰۲٤