جهوزية الانطلاق في الحياة المهنية

تحمل الأزمة الاقتصادية في لبنان تبعات خطيرة على الأسر اللبنانية كما على الأسر اللاجئة التي يرزح العدد الأكبر منها دون خط الفقر من الأساس. ولقد بدأت تظهر بعض هذه التبعات آخرها إعلان منظمة اليونيسف في تقريرها الصادر في العام 2022 بأن نسبة التسرّب المدرسي في لبنان وصلت الى 28 % بين الأطفال من عمر 15 و17 سنة. وفيما تغيب الأرقام الحديثة حول نسبة التسرّب المدرسي ما بعد الازمة الاقتصادية في صفوف اللاجئين الفلسطينيين، تشير الاحصاءات المتوافرة الى أن تلميذاً واحداً من أصل اثنين يتسرّب من المدرسة قبل الوصول الى المرحلة الثانوية.

ارتفاع نسب التسرّب المدرسي متوقعة في مثل هذه الازمات كونها تعود لعوامل يتقدّمها الفقر، وحاجة الأسر لمدخول إضافي، بالإضافة الى مجموعة من الأسباب تتفاعل وتتراكم مع بعضها البعض لتدفع بالطالب للخروج من النظام التعليمي. وفي العديد من الحالات، لا يكون التسرّب المدرسي نتيجة علامات متدنية للطالب أو صعوبات تعلّمية. من هنا، تأتي أهمية التحرّك من أجل ارشاد الطالب نحو حلول بديلة تكفل مستقبله، وحيازته على شهادة تؤهله دخول سوق العمل، وترفع عنه عبأ الفقر والعوز. ومن هنا، يشكّل التعليم المهني طريقاً مختصرة للطالب لدراسة ما يحبه ويختاره أولاً، ولدخول سوق العمل بوقتٍ أقل، وربما التوجه الى مقاعد الدراسة الجامعية أيضاً. 

لذلك، أطلقت مؤسسة التعاون بدعم من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي برنامج "دعم التعليم المهني للشباب الفلسطيني في لبنان" ليستكمل حلقة التعليم الذي تدعمه من جوانبه المختلفة. وأهميته في كونه يقدم منحاً تعليمية مجانية مدة ثلاث سنوات للطالب يحصل بنهايتها على شهادة البكالوريا المهنية من معاهد معترف بها في لبنان. وينقسم عمل البرنامج الى جزئين، التوجيه والإرشاد، والمنح التعليمية. 

في التوجيه والإرشاد، نتوجه مباشرة الى طلاب المرحلة المتوسطة داخل مدارسهم لتعريفهم بالبرنامج، وبالمنح التي يقدمها، وبالتعليم المهني والاختصاصات العديدة المتوافرة، إضافة الى حاجة سوق العمل. تكمن أهمية هذه اللقاءات في أنها تفتح آفاقاً جديدة أمام الطلاب للتعرّف على التعليم المهني، وللتفكير في المجالات التي يحبونها أو التي يفضلون دراستها. وتعطيهم بالتالي خياراً في حال التفكير في ترك المدرسة.  كما يتم عقد جلسات مشابهة مع الأهل الذي يعود لهم دور أساسي في تحفيز أبنائهم على التعلّم، وعلى اكتشاف مواهبهم.


أما المكوّن الثاني للبرنامج، فهو المنح التعليمية التي تغطي كلفة دراسة الطالب مدة ثلاث سنوات في واحد من المعاهد المهنية المعروفة في لبنان والتي تتوزع ما بين الجنوب، وبيروت، والبقاع، والشمال. كما يتضمن توفير التدريب على رأس العمل لجميع الطلاب في سنتهم الدراسية الأخيرة مدة ثلاثة أشهر، بما يعزّز من مهاراتهم وفرصهم بدخول سوق العمل.       

ويقدّم البرنامج أيضاً، دورات مهارات حياتية وحل النزاعات والتخطيط الاستراتيجي لجميع الطلاب الحائزين على المنح التعليمية. أهمية هذه الدورات، كما يقول حاتم مقدادي، أحد المدربين في مؤسسة Drops، "تساعدهم على التعبير عن أنفسهم، وتعزّز التواصل البنّاء في ما بينهم وهذه مهارات سيحتاجونها عند دخولهم لسوق العمل". 

كيف يصف الشباب تجربتهم؟

أحمد داوود، من مخيم البداوي، هو أحد الطلاب المستفيدين من منح التعليم المهني وقد اختار دراسة التمريض وأنهى سنته الدراسية الأولى. يقول، "اخترت التمريض لأنه يناسب شخصيتي ولأن فرص العمل موجودة في هذا القطاع. انتقلت من الصف العاشر في المدرسة الى التعليم المهني وأنا سعيد بهذا الخطوة".  هذا ما اختاره أيضاً هادي سعيد من مخيم الرشيدية في الجنوب، ويضيف، "أنهيت السنة الأولى من دارسة التمريض وبدأت بالعمل في الوقت نفسه في إحدى المستشفيات في مدينة صور. عملي يدعم عائلتي بالطبع ويؤمن مصروفي ولاسيما أن كلفة النقل والمعيشة في لبنان ارتفعت بشكل مخيف. اليوم، أدرك أكثر من قبل أن الحصول على شهادة معترف بها يُشكّل ضمانة لمستقبلي. والأهم أن التعليم المهني يبقي الأبواب مفتوحة أمامي لدخول الجامعة لو أحببت لاحقاً." 

أما سامر فريجه، 16 سنة، من مخيم البداوي، فاختار المحاسبة مهنة له كونها تلائم وضعه الصحي من ناحية بحيث انه يتنقل على كرسي متحرك، ولأن فرص العمل متوافرة داخل المخيم أو في مدينة طرابلس القريبة.  

 


اختارت متابة مهنى، من مخيم برج الشمالي دراسة التربية الحضانيّة، وتقول، "والدي شجعني على الدخول الى التعليم المهني الذي سيختصر الطريق عليّ للبدء بالعمل خاصة وان هذا الاختصاص مطلوب، وفرص العمل موجودة داخل المخيم وخارجه. وما ساعد على ذلك هو توافر المنح حيث ان التعليم المهني مكلف أيضاً ويفوق قدرة أسرتي على تحملّها. فكلفة تنقلاتي من مخيم برج الشمالي الى المعهد في مدينة صور ترتفع بصورة مستمرة مع تدهور الحالة الاقتصادية في لبنان."   


بالنسبة لأحمد معروف، الرياضة هي أكثر ما يحبه، فاذا كانت محور دراسته فهذا سيجعل من الدرس والدراسة أكثر متعة. العديد من المواد ضمن المنهج التعليمي المدرسي كانت مملة لأحمد ولا تستهويه فكانت النتيجة أنه شعر بتقصيره وبتخلفه بالدراسة مقارنة مع باقي رفاقه. أسرة أحمد حفزته على دخول التعليم المهني، كونه يضمن حصوله على شهادة معترف بها للعمل مستقبلاً. فانتقل أحمد وهو في الصف السابع الى المعهد وتسجّل لدراسة التربية البدنيّة. أكملت سنتي الأولى، يقول، "المواد أصعب مما توقعت إنما أحب الاختصاص بالرغم من كل شيء. وجدت أنه في التعليم المهني هناك العديد من الامتحانات والدرس ايضاً إنما الفرق الأساسي مع المدرسة هو أنني أدرس مواد أحبها وترتبط بشكل رئيسي في تخصصي."   

هناك ثقافة سائدة لا تشجع على التعليم المهني وتربطه بالفشل المدرسي وهذا أمر خاطئ، يقول مدير معهد آفاق المهني في مدينة صور، حسين خليفة، "فاختيار الطالب للمهنة التي يحبها في التعليم المهني يختصر الطريق عليه بحيث يدخل مباشرة بدارسة المواد المتخصّصة ويترك الباب أمامه في الوقت نفسه مفتوحاً لدخول الجامعة إذا أراد. وأنا أعرف العديد من الطلاب الذين دخلوا الجامعات وتفوقوا. المهم هو التخلّص من فكرة الفشل التي ترافق التعليم المهني، وضمان حصول الطلاب على شهادة تساعدهم في ضمان مستقبلهم."   

يُنفذ برنامج دعم التعليم المهني للشباب الفلسطيني في لبنان بدعم من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وبالشراكة مع صندوق الطلاب الفلسطينيين.

المنشورات ذات الصلة

الثوب الفلسطيني: تطريز عابر للحدود يحكي قصة فلسطين

لن نحكي هنا عن الثوب الفلسطيني فحسب، بل عن قدرته على التحوّل إلى رمز، وموضة، وهوية. إنها قدرة التصميم والتطريز في إضفاء حياة على القماش، والتعبير عن موقف، وفي سرد الحكاية الفلسطيني...

  • التعاون

  • ۲۲ أيار ۲۰۲٤

حياة جديدة أمام المسنين في مخيم الجليل في بعلبك

لدى أمينة الكثير لتحتفل به الآن! مع استلامها الكرسي المتحرك، تستعد لحياة جديدة بعدما قضت ست سنوات داخل أبواب منزله...

  • التعاون

  • ۱٦ أيار ۲۰۲٤

خارج حدود المخيم: الشباب الفلسطيني في لبنان يبحث عن أحلامه ويبني مستقبله

حوّل الكثير من الشباب الفلسطيني ضيق أحوالهم وقساوة واقعهم كمنصة للانطلاق إلى عالم على اتساع طموحهم بالرغم من كثرة التحديات التي تقف أمامه...

  • التعاون

  • ۱۳ شباط ۲۰۲٤

الرعاية الطبية المنزلية للمسنين في مخيم البداوي

مع تدهور الأحوال المعيشية في لبنان تزداد التحديات التي تواجه المسنين ولاسيما داخل المخيمات الفلسطينية التي يعاني سكانها من فقر شديد. فانطلق مشروع توفير الحماية والخدمات الصحية للاجئين الفلسطينيين المسنين في مخيمات البداوي ونهر البارد والجلي...

  • التعاون

  • ۸ كانون الثاني ۲۰۲٤